المقالات
مايو 11, 2024

الدبلوماسية الثقافية

د. عارف الساعدي

تشكل الدبلوماسية الثقافية تجسيرا فريدا لاجتراح صلات خاصة بين الثقافات المتنوعة بله عن الشعوب؛ اذا تقوم في جوهرها على توظيف المعارف والموسيقى والتشكيل والتراث الشعبي فضلا عن الفنون بمختلف تجلياتها لتغدو بمثابة الواجهة الحضارية التي تقدمها مختلف الدول بوصفها مسارات تأثيرية عابرة للحدود ما فوق-الوطنية. وعادة ما شكلت الدبلوماسية الثقافية جسراً حقيقياً لعبور الحضارات والعادات، والناس انفسهم ايضا، يعبرون من بلد إلى آخر بأريحية عالية من خلال الدبلوماسية الثقافية، والدبلوماسية الثقافية نعني بها استثمار الدولة والشعوب للفن والادب والموسيقى واللوحة والقصيدة، وكل ما له علاقة بالقوى الناعمة، استثمارها لتكون واجهة البلد حين تتحاور مع بلدان اخرى صديقة او غير صديقة ، لان هذه القوى الناعمة مفتاح للأبواب المغلقة ومشترك عام لكل الشعوب ، اذ لا تخلو حضارة من الحضارات قديمها وحديثها من هذه الفنون ، لذلك فحين تكون الثقافة هي طريقة عيش وحوار لمن ترسلهم الدول ممثلين عنها او سفراء لها، فان هذا الأمر سينعكس ايجابا على الحكومة والدولة في احترامها للثقافة واعتبارها نافذة للعلاقات الدبلوماسية ان القرن العشرين حظي بدبلوماسيين كثر كانوا شعراء وفلاسفة ومفكرين وفنانين تشكيليين استطاعوا ان يكونوا حلقة وصل بين حكوماتهم والحكومات الأخرى وبالتالي بين حضاراتهم وحضارة الدول التي يعملون فيها والسفير الأهم من السفير الرسمي هو الفنان والأديب والموسيقي وووو ذلك ان هذه الطبقة من المنتجين الثقافيين هم سفراء حقيقيون دون امر وتكليف، لان عملهم الاساس هو الجمال وصناعته وهذا العمل لا يحتاج إلى امر حكومي او رسمي ، لانه يدخل رسالة سلام ومحبة واذكر في هذا المجال ان العراق مر بعلاقات متوترة بينه وبين معظم جيرانه، ولسنوات طويلة ، ولكن واحدة من السبل التي حلحلت هذه العلاقات الراكدة هي القوى الناعمة التي استخدمت بوصفها دبلوماسية عالية المستوى ، فعلى سبيل المثال في عام ٢٠٠٤ اول وفد يصل إلى دولة الكويت هو وفد ثقافي عراقي بدعوة من الشاعر عبدالعزيز البابطين ، حيث كنا بقطيعة تامة مع الاخوة الكويتيين، ولكن اول وفد عراقي شبه رسمي من ٤٠ شخصية ثقافية وأدبية كان من الادباء والكتاب، وحين حلوا ضيوفاً على الكويتيين بدأت سلسلة من الحوارات والنقاشات والقراءات الشعرية المشتركة ، عندها بدأ يذوب الجليد بين الدولتين، باعتقادي كان الفن والادب عاملا اساسياً في ردم الهوة والفجوات كذلك ما بين العراق وايران ، ففي زيارة احمدي نجاد رئيس الجمهورية الإيرانية لبغداد عام ٢٠٠٧ كان اول لقاء عام له مع المثقفين العراقيين حيث وجه لهم دعوة لاقامة اسبوع ثقافي في طهران وبالفعل هذا ما حدث، حيث ذهب ما يقارب ٢٠٠ شخصية ثقافية وفنية وأدبية وتشكيلية لطهران، وايضا خاض المثقفون العراقيون جولات وجولات مع المثقفين والسياسيين الإيرانيين، قربت كثيرا من وجهات النظر رغم الثماني سنوات من الحرب الطاحنة بين البلدين، وكذلك ما حدث في عام ٢٠٢١ بين العراق والسعودية حيث حل العراق ضيف شرف على معرض الكتاب في الرياض ، وذهب ما يقارب من سبعين شخصية ثقافية معتبرة بطائرة خاصة إلى الرياض وهو اول وفد بهذا الحجم والتأثير إلى المملكة العربية السعودية، وقد كنت أتتبع وجهات نظر العراقيين التي كانت حذرة في بداية الأمر، بسبب القطيعة الطويلة ، ولكن ما ان بدات الفعاليات واقترب المثقفون فيما بينهما من ادباء ومفكرين وفنانين عراقيين وسعوديين واذا بالجليد المتخيل يذوب في لحظة فارقة وتاريخية من لحظات الوئام الثقافي الأمثلة عديدة ومختلفة ومتنوعة في ان تكون الدبلوماسية الثقافية مفتاحا للحلول بين الشعوب، وعلى سبيل المثال تجهد الدول في إيصال ثقافتها وعاداتها وتخسر الكثير من الاموال على هذا الشأن دون نتيجة واضحة ولكن من خلال مسلسل واحد او اغنية تنتشر او شخصية ثقافية عامة ستجد ما تريده واضحا ومؤثراً دون تكلف ، ذلك ان الدبلوماسية الثقافية لها اذرع متعددة ما بين الغناء والموسيقى والشعر والادب والرواية والدراما كل ما يتعلق بصناعة الجمال وتصديره بوصفه واجهة محترمة للبلدان التي تقدر حضارتها وتاريخها ورموزها
وصدق حين قال محمود درويش
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الاغاني في بلاد الرافدين
هزمتك يا موت النقوش على حجارة معبدٍ
هزمتك وانتصرت
وأفلت من كمائنك الخلودُ
فاصنع بنا
واصنع بنفسك ما تريدُ