رؤية في التوظيف الدبلوماسي لإقتصاد التنوع المجتمعي
د. سعد سلوم
كلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية – قسم العلاقات الدولية
بعد غزو العراق في 2003 وإسقاط النظام الدكتاتوري برزت أمام نخب الدياسبورا فرص واعدة للمساهمة في تشكيل نظام ديمقراطي تعددي وإعادة الأعمار بعد انغلاق شامل على المجتمع الدولي استمر لعقود، تلازمت معه تأثيرات مدمرة لحلقة مستمرة من العقوبات الدولية والحروب والنزاعات مع دول الجوار.
وقد تمكنت اقلية من نخب الدياسبورا العراقية من العودة عبر منصة الأحزاب السياسية المعارضة في الشتات للمساهمة في بناء النظام السياسي الجديد، وهي نخب شكلت بالفعل ايقاع ومسار العملية السياسية لعراق ما بعد صدام حسين، من خلال شغل المناصب السياسية في الوزارات والمحافظات وقيادة مختلف القطاعات التنفيذية العليا. وابرز مثال على تأثير نخب الدياسبورا إن ستة من رؤساء الحكومة العراقية المتعاقبين كانوا من مجتمع الشتات في الخارج، وهم كل من رؤوساء الوزراء السابقين: ابراهيم الجعفري وإياد علّاوي ونوري المالكي وحيدر العبّادي وعادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي على التوالي (يعد السوداني اول رئيس وزراء من عراقيي الداخل).
لذا، قد يبدو غريبا لأي مراقب، غياب التفكير من قبل النخب السياسية العراقية في بلورة دبلوماسية خلاقة لتوظيف وإستثمار الدياسبورا العراقية، مع ما تنطوي عليه الأخيرة من قدرات وامكانيات فريدة. إذ تنتشر الجاليات العراقية Iraqi diaspora من مختلف مكونات المجتمع العراقي في العديد من بلدان الشرق الأوسط والعالم العربي، ويتركز قسم كبير من هذه الدياسبورا في دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة ودول غربية أخرى. وهناك إمكانيات لتوظيف دبلوماسي فعال لقدرات وعناصر قوة هذه الدياسبورا في تعزيز حضور ومكانة الدولة العراقية وأولوياتها في مراكز صنع القرار العالمي، وذلك في ضوء توظيف اقتصاد التنوع المجتمعي، وهي فكرة سبق للباحث مناقشتها في العديد من مؤلفاته. مثل كتاب: التنوع الخلاق 2013، والوحدة في التنوع 2015 وديناميات الهوية 2022.
الدياسبورا كجزء من إقتصاد التنوع المجتمعي
نقصد بمفهوم اقتصاد التنوع المجتمعي : استثمار جميع طاقات المجتمع : أرضا، وشعبا، وفضاء، ومواردا ومواهبا، جماعيّة وفرديّة، وخبرات عابرة للأجيال، وتاريخ وإرث حضاريّ، وميراث ثقافيّ تعدُّديّ ألفي، ودياسبورا في مختلف ربوع المعمورة إلخ. (سلوم : اقتصاد التنوع المجتمعي -نحو نظرية لإدارة التنوع الخلاق في العراق، 2024).
تأتي أهمية الإستثمار الدبلوماسي في اقتصاد الدياسبورا من كون الحكومات والقطاع الخاص تنظر تقليديااً إلى المغتربين بوصفهم مقدمين مستمرين لرأس المال المالي. وفي حين أن الاعتراف بدور المغتربين في “تحقيق التنمية” قد تزايد، وينظر إلى المغتربين بشكل متزايد على أنهم أصحاب مصلحة مهمين في التنمية، إلا أنهم لا يزالون لا ينظر إليهم على أنهم مستثمرون اجتماعيون مهمون من قبل الحكومات، أو القطاع الخاص. وهو ما نحول جذب الإنتباه اليه من خلال مفهومنا الجديد للإقتصاد البديل القائم على التنوع المجتمعي بشكل عام، وعلى عنصر الاستثمار في اقتصاد الدياسبورا بشكل خاص.
في هذا السياق ، لا نركز في هذه المقاربة على حث الحكومة العراقية والمؤسسات المالية والقطاع الخاص والمغتربين أنفسهم على التركيز على توظيف استثمارات المغتربين كجزء من مزيج تمويل التنمية، وخاصة كجزء من حزم “التمويل المختلط”. بل ندفع الفكرة كجزء من فكرة طرحها الباحث في سياق اقتصاديات الشتات Diaspora Economics، ونعني بذلك مفهوم (اقتصاد التنوع المجتمعي).
نركز في مفهومنا الجديد على امكانيات الاسثمار في قطاعات أوسع من القطاعات التقليدية التي تجعل من السياسة الخارجية آسيرة مفاهيم حصرية وخاضعة لموجهات أيديولوجية تقليدية أو تفكير من داخل الصندوق. إذ يمثل حضور مجتمعات الدياسبورا العراقية من الطبقات الاجتماعية والنخب الفكرية والمواهب الاستثنائية ورجالات الأعمال ونخب الاقليات الدينية والجماعات الإثنية المختلفة فرصة ثمينة لتسخير مواهب وخبرات واستثمارات المغتربين، والسعي إلى توسيع نطاقها لتحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي الشامل للبلاد، لا سيما في ضوء الفجوة في التمويل المتاح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من جهة وتحول العلاقة مع هذه الدياسبورا الى فجوة تهدد بتصدع مجتمعي وانفصام سوسيوثقافي بين الداخل والخارج.
لا يترك هذا الاستثمار او التوظيف الدبلوماسي أثره الإيجابي على حضور فعال للسياسة الخارجية العراقية فحسب، بل ينعكس حتى على البيئة السياسية الداخلية في مناطق الصدع الإثنية وخطوط الإنقسام العرقية، أي بعبارة أخرى، قد يدفع مثل هذا الاستثمار الى تحول جذري في البيئة المستقطبة والمعقدة والتعددية مثل سهل نينوى شرق الموصل وسنجار شمال غرب الموصل ومناطق أخرى عديدة مثل كركوك. أي أنه بعبارة كفيل بتحول انماط التفكير السائدة Paradigms من نظام سوسيوثقافي الى نظام أخر، أكثر فعالية، في تحقيق أسس استقرار مستدام. بأختصار إنه يضمن التحول من مقاربة حل النزاع الى تحويل الصراع.
ثانيا، إن له أثره الموازي في تدعيم مكانة القوة الناعمة للبلاد في مراكز فاعلة في النظام الدولي (المسيحيون الكاثوليك انموذجا في العلاقة مع الكرسي الرسولي في الفاتيكان) و(الاشوريون في ما يخص العلاقة مع عواصم عالمية مؤثرة في واشطن دي سي وباريس مثلا)، والإيزيديون والأكراد في ما يتعلق بالعلاقة مع الحكومة الالمانية، وكذلك الجالية العراقية الأكثر حضورا وتنوعا في بريطانيا والجاليتان الاشورية والمندائية في استراليا وفرنسا ومناطق أخرى.
يمكن للدبلوماسية العراقية من خلال الاستثمار في التنوّع المجتمعيّ الخلّاق ورأس المال البشريّ التّعدُّدي المنتشر خارج البلاد تحفيز سياسة خارجية عراقية أكثر فاعلية وتأثيرا في المحيطين الأقليمي والدولي. ويمكن في هذا السياق توظيف مقدرات وتأثير من 350 -450 الف عراقي في بريطانيا، من مختلف مكونات المجتمع، وفقاً لتقديرات السفارة العراقية في لندن ، فضلا عن إمكانيات واعدة لتوظيف جميع طاقات المجتمعات الأخرى من العرب والأكراد والتركمان والشّبك والأرمن إلخ في مراكز صنع القرار العالمي في برلين ولندن وواشنطن دي سي. ساضاف الى ذلك خبرات الأقليات الدينية الفريدة مثل الكلدان في ديترويت (180 الف) و الآشوريّين في شيكاغو (35 الف) والإيزيديين في ألمانيا (200 الف) والمندائيّين في أستراليا (50 الف).
الدياسبورا وتدفق رأس المال البشري خلال العقود الماضية
تعكس الدياسبورا العراقية مجتمعات متدفقة من المهاجرين الذين يحتفظون بإحساس الارتباط مع وطنهم الأم. ومع أن هذه ظاهرة قديمة لكنها أصبحت مجالًا مهمًا للبحث في ضوء التقدم التكنولوجي الحديث في مجال الاتصالات والنقل الذي أبرز أهمية الروابط بين هذا الشتات المنتشر عالميا والبلد الأم، مما يؤدي إلى اكتساب سكان الشتات من كافة مكونات المجتمع وطبقاته وخبراته ومواهبه ونجاحاته أهمية متزايدة في مجالات مثل التجارة الدولية والسياسة الخارجية والتنمية الاقتصادية.
ونظرًا لخصائصهم الفريدة العابرة للحدود الوطنية، يمكن أن يكون للدياسبورا العراقية تأثيرا كبيرا على التبادل الاقتصادي بعدة طرق، ومع أن العراق يعد بلدا يتمتع بريع أساس يتمثل بالنفط، الإ أن هذا المورد لن يظل مستداما، بالتالي يمكن التفكير في أن تشكل التحويلات المالية من الشتات مصدرا رئيسيا لرأس المال من أجل التنمية.
فضلا عن تأثير تنقل المواهب العراقية العالمية، أي، هجرة العقول على فقدان رأس مال لا يمكن تعويضه، لا سيما مع التحولات السياسية والإجتماعية العنيفة داخل البلاد، والتي دفعت بلدان عديدة للمنافسة على جذب العقول والمواهب العراقية وتوظيفها لخدمة تلك البلدان، كما في بعض بلدان الخليج العربي ودول الجوار مثل سوريا والأردن ولبنان. ويمثل ما تقدم دليلا يوضح أن أفراد الدياسبورا العراقية اذا كانوا يلعبون دوراً حاسمااً في تكوين شبكات تنظيم المشاريع والشبكات التجارية الدولية، وذلك بسبب قدرتهم على المساعدة في التغلب على الحواجز اللغوية أو الثقافية، فإنهم يمثلون قوة ناعمة ينبغي عدم التفريط بها وإعادة جذبها لفضاء البلد الأم.
التاريخ الموجز في تشكل الدياسبورا العراقية
خلال جولاتي البحثية والجامعية طوال عشرين عاما الماضية، في بلدان عديدة، لاحظت أن الدياسبورا العراقية تفتقر للتماسك الداخلي. ويمكن تفسير هذه الظاهرة في ضوء السياق التاريخي المعاصر لتشكل جسم الدياسبورا عبر موجات متتالية من اللاجئين والمهاجرين، مختلفة الميول الفكرية والولاءات الاجتماعية والنزعات الأيديولوجية والانتماءات الطبقية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر.
تمثل التحولات السياسية العنيفة في التاريخ العراقي المعاصر السبب الجوهري لموجات الهجرة التي شكلت هذا الجسم متنافر العناصر. ويمكن وضع مخطط تاريخي مبسط لهذه التدفقات من بداية رمزية في ثلاثينات القرن الماضي مع نفي واسقاط الجنسية عن الاشوريين بعد مجزرة سميل 1933، من الذين استقر بهم المقام في شيكاغو في الولايات المتحدة وكونوا اقلية دينامية ذكية. وكذلك الكلدان الذي هاجروا الى الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر وصولا الى موجة الهجرة بعد مجزرة الأرمن في تركيا العثمانية 1915. وكذلك عماد الطبقة الوسطى من يهود العراق خلال عامي 1950-1951.
بعد الثورة على النظام الملكي 1958 هاجر العراقيون ما تبقى من اليهود و أعداد من المسيحيين وأنصار الملكية إلى البلدان الأوروبية، ولا سيما الى بريطانيا التي فتحت أبوابها للعديد من الأقليات الدينية وأنصار الملكية -الذين كانوا حلفاءَ لبريطانيا- من أجل الهجرة والإقامة في المملكة المتحدة.
ثم جاءت موجة الهجرة الثالثة عقب الانقلاب البعثي في عام 1963، الذي أطاح بحكومة عبد الكريم قاسم. و كان أغلب المهاجرين، هذه المرة، ينتمون للطبقة الوسطى. ثم مع الانقلاب البعثي عام 1968 ضمت الموجة الجديد ضحايا أخرين، هذه المرة : أكرادا وآشوريين ومعارضي النظام من الطبقة الوسطى أيضااً، مع تزايَد شعور طبقات ونخب عديدة بالاضطرار إلى مغادرة البلاد بسبب مناخ القمع العام الذي ساد البلاد، لا سيما بعد صعود نجم صدام حسين في السلطة
وبعد موجة تدفق قادة اليسار السياسي والنخب السياسية الكردية المعارضة شهدت الثمانينيات موجة جديدة من المهاجرين العراقيين، إذ أدت الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت من عام 1979 إلى عام 1988، إلى هجرة الناشطين السياسيين من الاحزاب الاسلامية مثل حزب الدعوة والحزب الشيوعي والأحزاب الكردية. بالتالي تشكلت موجة من المهاجرين من مزيجٍ مختلط من السياسيين المعارضين والمستقلين والتجار والمهنيين، وتغذت الهجرة تاليا بالمواهب والنخب الجديدة والشابة من الجيل الجديد بين عامي 1990 و1991 وذلك خلال حرب الخليج الثانية وفي أعقاب الانتفاضات الشيعية والكردية شمال وجنوب العراق.
وخلال 13 عاما من عقوبات دولية بدأت بقرار مجلس الأمن 661 الذي فرض نظام الجزاءات الاقتصادية مرورا بالقرار 687 الذي أدخل البلاد في سلسلة من التقييدات الجديدة، أصبحت الهجرة ملاذا وخيارا لكل من استطاع الى ذلك سبيلا. لقد تسببت العقوبات الاقتصادية في تأثيرات كارثية، وعلى الرغم من فرضها من قبل الأمم المتحدة في البداية كرد على الغزو العراقي للكويت، الإ إنه تم تجديدها عد نهاية الحرب التي شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مستهدفة تدمير البنية التحتية المدنية للبلاد، بما في ذلك مرافق الكهرباء والصرف الصحي، وفاقمت هذه الهجمات الحربية والقصف الجوي المكثف من آثار العقوبات الأولية وجعلت العقوبات اللاحقة، التي تم أدامتها في قرار مجلس الامن الدولي 687، أكثر تدميراً، ما ترك أثره على الطبقة الوسطى ونظام التعليم وقدرات النخب الثقافية والاقتصادية، وشكل ضربة قاصمة لرأس المال البشري العراقي في الداخل.
بعد احتلال العراق في عام 2003 وما تلى ذلك من صراعات وحرب أهلية 2006-2007 تغذت الدياسبورا بموجات جديدة من الفارين من العنف الطائش والعشوائي، وشملت الهجرة ابرز النخب الموهوبة وما تبقى من الطبقة الوسطى ونخب الأقليات الدينية والإثنية ورجالات الاعمال ومالكي رؤوس الأموال. وشكلت هذه الموجات دياسبورا ممانعة، لها رأي حاسم تجاه التغيرات السياسية بعد الغزو الأميركي وتأسيس نظام ديمقراطي تعددي في البلاد في إعقاب اسقاط النظام الديكتاتوري.
ثم مع التهديد الأخير الذي شكله تنظيم داعش الارهابي 2014 وجد عدد متزايد من العراقيين أنفسهم في الشتات. وقد اتبع بعضهم نمط الهجرة التسلسلية نفسه والتحق بعائلته الممتدة في البلدان المضيفة التي كان من الممكن الهجرة إليها لجمع شمل الأسرة. في حين سلك البعض الآخر طريقاً أخطر وسافروا في رحلات غير شرعية إلى أوروبا. وقد وجد الجيل الشاب ما بعد داعش مع موجة الاحتجاجات الواسعة بعد عام 2019 نفسه في مواجهة خيار مماثل. الأمر الذي شكل صدعا إجتماعيا خطيرا بين البيئة السياسية الداخلية ومجتمعات الدياسبورا خارج البلاد. وهو ما ينبغي ان يشكل أحد أبرز تحديات السياسة الخارجية العراقية.
والخلاصة، إنه نتيجةَ موجات الهجرة وخلفيات العراقيين المتنوعة نجد أن تركيبة الدياسبورا العراقية في دول العالم شديدة الاختلاط والتفاوُت من غالبية مكونات المجتمع من العرب الشيعة والسنة والأكراد السنّة، بينما هناك أقليات أخرى كثيرة تشكل جزءاً من خارطة الشتات كالآشوريين والكلدان والسريان والصابئة المندائيين والتركمان والأكراد الفيليين واليهود الخ. وأنها نتيجة التحولات السياسية العنيفة أصبحت الدياسبورا تمثيلا للصدع الاجتماعي، وهي في الحين نفسه، ومن منظور اقتصاد التنوع المجتمعي، تمثل رأس مال بشري ينبغي كسبه وتوظيفه لصالح البلاد، كقوة ناعمة.
والهدف الأخير ينبغي ان يعيد تشكيل أهداف السياسة الخارجية العراقية في الأعوام المقبلة.
نحو توظيف دبلوماسي فعال لإقتصاد الدياسبورا العراقية
تعود اول محاولة ناجحة للتنسيق بين ممثلي الدياسبورا العراقية في الخارج الى عام 1990 في أعقاب غزو الكويت، إذ رأت المعارضة العراقية في ذلك فرصةً للتأثير على صناع السياسات الدولية في لندن وواشنطن، والدفع باتجاه تغيير النظام السياسي الدكتاتوري في العراق.
هذا هو السياق الذي برز فيه المؤتمر الوطني العراقي وعمل مع مجموعات معارضة أخرى، مع حكومتَي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للدفع باتجاه تغيير نظام صدام حسين. ونجحت المحاولة الى حد كبير في دفع أجندة دولية لتغيير النظام والسعي لذلك فعليا، في نهاية المطاف، من خلال تنفيذ “قانون تحرير العراق” للعام 1998.
ومع الاستعداد للغزو في اعقاب احداث 11 ايلول 2001 ، كانت جماعات المعارضة تعمل على تعزيز علاقاتها مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة، تمهيداً لتشكيل جزء من الحكومة الجديدة بمجرد حدوث التدخل العسكري وتغيير النظام. في حين اتجهت عدة جماعات في الشتات العراقي على تقديم الإغاثة الإنسانية خلال نظام العقوبات من قبل الامم المتحدة من 1991 إلى 2003.
بعد غزو العراق في 2003، استطاعت نخب الدياسبورا العودة إلى البلاد، وبرزت فرص المساهمة مباشرةً في إعادة الأعمار وتشكيل النظام الديمقراطي التعددي. وكما أشرنا في مثال ستة رؤساء وزراء للحكومة العراقية من مجتمع الشتات في الخارج. فإن الفرصة كانت قائمة دوما لتوظيف فعال لمجتمع الشتات.
لكن، حالت طبيعة النظام المؤسس على المكوناتية دون توظيف مثمر لهذا الرأسمال البشري العابر للحدود وللمكوناتية من مجتمع الشتات. وأدت بنية النظام المكوناتي الى وضع كوابح امام تعبئة جهود مجتمع الدياسبورا وتحقيق تماسك داخل هذا المجتمع التعددي على نحو مثمر، لا سيما النخب التي ليس لها صلة ايديولوجية بالأحزاب السياسية التقليدية، مع أن فرصا عديدة قد لاحت لتوظيف ايجابي يسهم في بناء اقتصاد الشتات في ضوء مفهوم اقتصاد التنوع المجتمعي، ولإقتراح اقتصا بديل لإقتصاد الريع النفطي.
وقد لاحت لحظات ذهبية كان يمكن ان تغير طبيعة البراديغمات السائدة. وتمثلت الفرصة الأبرز لتوحيد جسم الشتات الممزق خارج البلاد والبدء بسياسة توظيف ذكية لاقتصاد التنوع المجتمعي مع غزو داعش للبلاد 2014. وفر هذا التهديد الوجودي لبقاء العراق ككيان سياسي وحضاري فرصة توحد المواطنيين العراقيين بكافة اطيافهم للدفاع عن وحدة البلاد. لكن افتقار الدبلوماسية العراقية لرؤية موحدة نتج عنها عدم استثمار صانع القرار لفرصة توحد شتات الخارج مع حدث استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على محافظة نينوى عام 2014. لا سيما مع الدعم الدولي للبلاد في حربها للتحرر من التنظيم الإرهابي المتوحش.
وخلال الاحداث المتتالية من 2014 إلى 2017 انبثق سعي مشترك ناجم عن جهود الشتات في التعبئة وظهور التنسيق العابر للحدود ومشاركة المغتربين الفعالة من كافة الخلفيات العرقية والاجتماعية والسياسية في الاحتجاجات ضد الإرهاب وفي الدعوة إلى حماية التراث التعددي الذي دمرته داعش، وكرد فعل على ما ارتكبه من جرائم ابادة جماعية وتطهير عرقي.
كانت لحظة التوحد الثانية مع مطلع شهر تشرين الأول عام 2019، عندما اتخذت الحركة الاحتجاجية في البلاد طابع توحيد بين عراقي الداخل والخارج والمطالبة بهوية عراقية وطنية عابرة للمكوناتية، واستشراف آفاق اقتصادية أفضل لجميع المواطنين، وهي فرصة ضائعة لم يتم استثمارها في مسار اصلاحي لتوظيف هذه الروح النادرة العابرة للمكوناتية لبناء هوية وطنية مشتركة وجامعة. لا سيما بعد ان تحولت الى لحظة إنقسام جديدة بسبب البرايغم المهمين في النظر للإحتجاجات كتهديد وليس كفرصة إصلاح لازمة.
في المقابل طرح الباحث منذ عام 2013 مفهوما جديدا لإستثمار التنوع المجتمعي، يقوم على ضرورة توحيد مجتمع الشتات الذي لا يعد جسما متجانسا، (سلوم، التنوع الخلاق، 2013). والدعوة لخلق منصة للتنسيق أو التعاون بين جماعات الشتات المختلفة، في اطار تغيير البراديغم المهيمن على الثقافة السياسية وبوصف التنوع المجتمعي مصدر غنى وليس مصدر تهديد (سلوم، ديناميات الهوية 2023 ، سلوم، الوحدة في التنوع 2015).
وقد اضفت زيارة قداسة بابا الفاتيكان الى العراق 2021 اهمية كبرى على مثل هذه الرؤية التي تنطلق من النظر الى العراق بوصفه عاصمة للتنوع الديني في الشرق الاوسط والعالم، وأثر ذلك على توظيف عابر للحدود، مع ما يشجعه من توظيف قدرات وعلاقات نخب الاقليات مثل الايزيديين والتركمان والأكراد الفيليين والصابئة المندائيين والمسيحيين وغيرهم من مكونات المجتمع. ولا سيما ان الزيارة رفعت الوعي الوطني والعالمي على نحو نادر باهمية التراث التعددي للبلاد، والتفكير بأمكانيات اقتصادية واعدة وبديلة للريع النفطي. (سلوم، فرنسيس في أور 2023).
من هنا تبرز حاجة ماسة لإجراء مبادرة مسبقة لبناء الثقة بين مكونات مجتمع الشتات العراقي كخطوة أولى، لا سيما في ضوء الافتقار الى منصة أو مبادرة مؤسسية رسمية فعالة يمكنها توحيد الجهود أو بناء رؤية جامعة تتيح استثمار اقتصاد الشتات وخبرات النخب المغتربة.
ونقترح-في هذا السياق- عقد المجموعة العراقية للشؤون الخارجية منتدى لمكونات ونخب الشتات العراقي، مع الأخذ بنظر الاعتبار الخصوصيات الثقافية المختلفة، وعلى نحو يفتح آفاقا للحوار المتواصل للتوافق على أولويات التوظيف لمجتمع الدياسبورا، واستشكاف الامكانيات المتنوعة لاستثمار اقتصاد التنوع المجتمعي من أجل تعزيز مكانة وحضور العراق إقليميا ودوليا.