المقالات
يونيو 24, 2024

تحديات العملية الديمقراطية في منطقة مينا

د. يوسف محمد صادق

لا شك أن هناك انتكاسة واضحة وكبيرة في العملية الديمقراطية في أجزاء كبيرة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA). ولا بد من الاعتراف بأن الثورات المضادة تمكنوا من الإنقلاب على مكتسبات الربيع العربي في معظم دول المنطقة، والتي تمكنت شعوبها من تحقيقها من خلال هزيمة الأنظمة الاستبدادية.

بداية يجب أن نشير إلى أننا عندما نتحدث عن تحديات الديمقراطية في هذه المنطقة، فإننا نرتبط بمتغيرين مستقلين: العملية الديمقراطية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باعتبارها منطقة جغرافية معقدة ذات خصائص سياسية واجتماعية واقتصادية مشتركة.

أولاً: النضال من أجل الديمقراطية

فيما يتعلق بالنضال من أجل ترسيخ المبادئ الديمقراطية، يمكننا أن نشير إلى هذه الملاحظات السريعة التالية:

1. الديمقراطية كعملية ديناميكية:

إن الديمقراطية هي عملية ديناميكية وليست ثابتة. وحتى في الدول الأكثر ديمقراطية، لا يمكن ضمان عدم وجود تهديد للمؤسسات الديمقراطية، كما حدث في الولايات المتحدة في أواخر عام 2020 وبداية عام 2021. وفي هذا الصدد، قالت نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، في خطاب فوز جوزيف بايدن بانتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2020: (كتب عضو الكونجرس السابق جون لويس قبل وفاته: “الديمقراطية ليست حالة (مستقرة) بل هي فعل”. وكان يقصد بإنها قوية بقدر رغبتنا في القتال من أجلها، وحمايتها وعدم اعتبارها أمرًا مضموناً أبدًا. وحماية ديمقراطيتنا تتطلب النضال والتضحية)[i]. ولذلك فإن النضال من أجل إرساء مبادئ الديمقراطية وحمايتها هو نضال مستمر بلا وقفة.

2. التطور الديمقراطي والتنمية الشاملة:

إن طريق التقدم الديمقراطي يعتمد على التقدم والتطور على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن افتراض الديمقراطية الحقيقية بدون اقتصاد السوق، أو في ظل اقتصاد الريعي. لذلك فإن التحول إلى الديمقراطية الحقيقية يتطلب التغيير على هذه المستويات جميعها.

3. النضال المحلي والدعم الدولي:

يجب أن يُنظر إلى النضال من أجل الديمقراطية على أنه نضال داخلي في المقام الأول. ولذلك، وبغض النظر عن حجم قدرتنا وقوتنا ودرجة الدعم الخارجي، فإن مصيرنا ومصير شعوبنا في الداخل وسيادته واستقلاله في الخارج يعتمد على إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية ومستقرة. في الوقت نفسه، فإن دعم المجتمع الدولي يمكن أن يساند ويساعد في تسريع عملية التحول إلى الديمقراطية، ولكن لا يبدو أن هذا يشكل الآن أولوية بالنسبة للدول الديمقراطية، وخاصة لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

ثانياً: تعقيدات منطقة الشرق الأوسط

لا يخفى على أحد أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة معقدة ومهمة للعالم أجمع، وتتفاعل فيها باستمرار العديد من اللاعبين والمتغيرات الإقليمية والعالمية بالإضافة إلى المتغيرات المحلية. وفيما يتعلق بأوضاع الديمقراطية والحقوق والحريات في العديد من دول المنطقة، يمكننا تسجيل الملاحظات التالية:

1. عودة الثورات المضادة إلى السلطة:

هيمنة طيف أيديولوجي معين على نتائج الربيع العربي بسبب انقسام وضعف الحركات الليبرالية والمدنية، تشابك الصراع على السلطة مع التقاطعات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية، نشوب الصراعات الدموية وتفشي الفوضى، ناهيك عن تصاعد الإرهاب المتمثل بداعش، مع ضعف مساندة الدول الديمقراطية للأنظمة الناشئة، أدى إلى تمكن الثورات المضادة من إستعادة السلطة وقمع الحريات والحقوق بشكل أشد وأفظع من السابق بحجة فرض الاستقرار وتجنب الفوضى والإرهاب.

2. آثار الحروب والصراعات الدموية:

تمر العديد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حاليًا بأجواء من الصراع والحرب. ولا يمكن تجاهل تأثير هذه الصراعات على عملية التحول إلى الديمقراطية في المنطقة. فمن جهة تستغل الأنظمة التسلطية هذه الصراعات لتقييد الحريات بحجة التهديدات الخارجية. وفي الوقت نفسه، فإن فظاعة المأساة والإبادة الجماعية الإنسانية في غزة تشجع على الكراهية والتطرف، والاشمئزاز من الغرب، ومساواة القيم الديمقراطية بالظواهر المثيرة للاشمئزاز للغرب، خاصة بالنظر إلى الموقف السلبي لأكثرية الحكومات الغربية تجاه حرب غزة، وتصاعد العنصرية والحركات الشعبوية واليمينية فيها. وتحاول بعض القوى الدولية أيضًا تعزيز هذه الصورة للدول الغربية بهدف توسيع نفوذها والترويج لنموذج حكمها وتعزيز مشاريعها الجيواستراتيجية في آسيا وإفريقيا.

3. التحديات والآمال:

إن النضال من أجل الديمقراطية في المنطقة يواجه تحديات جمة، ولكن عند دراسة نضال الأمم من أجل نيل حقوقها، يتضح أن هذا أمر طبيعي، وقد مر نضال الأمم بهذا الصدد العديد من المنحنيات الصاعدة والنازلة، وتراكمت المكتسبات على مر الزمن. في الوقت نفسه، لا يوجد سبيل آخر سوى أن تتكاتف جميع القوى الديمقراطية في المنطقة ومساندة بعضها البعض. هناك العديد من المتغيرات الداعمة أيضاً، مثل تصاعد نسبة الشباب المتعلمين والواعين بالتحولات العالمية بسبب توسع فرص الوصول إلى المعرفة. هذا بالإضافة إلى الفشل المستمر للأنظمة التسلطية في الحكم وفي قمع الأصوات المعارضة.

وفي الوقت نفسه فإن التحول الديموقراطي يمثل مصلحة مشتركة لشعوب المنطقة مع الدول الديموقراطية الأخرى في العديد من المجالات مثل السيطرة على الهجرة غير الشرعية ومكافحة التطرف والعنف. ويجب على الأنظمة الديمقراطية أن تدعم الحركات المدنية بدلاً من تشكيل تحالفات مع الأنظمة التسلطية غير الديمقراطية والمركزية التي تميل إلى مثيلاتها من الدول.

ثالثاً: ٣ أيام من ورش عمل لإيجاد الحلول:

تمت مناقشة بعض ما سبق في سلسلة من اللقاءات وورش العمل التي عقدت أواخر الشهر الماضي وأوائل هذا الشهر في سراييفو من قبل منظمة [ii](Zašto Ne) البوسنية والحركة العالمية من أجل الديمقراطية (World Movement for Democracy)[iii] بالتعاون مع الصندوق الوطني للديموقراطية  [iv](National Endowment for Democracy). وحضر الحدث 110 من قادة المجتمع المدني ونشطاء الديمقراطية من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و40 خبيرا في مجال الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني من مختلف أنحاء العالم. أود أن أذكر بعض الجوانب ذات الصلة بالملتقى للإفادة.

كما ذكرنا أعلاه، واجهت العملية الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديات كبيرة في السنوات الأخيرة. فمن ناحية، أعادت الثورات المضادة في جميع البلدان التي شملها الربيع العربي إنتاج شكل آخر من الأنظمة التسلطية وقامت بفرض قيود مشددة على الحريات العامة والحقوق للمواطنين. في الوقت نفسه، فإن احتدام الصراعات الدولية واندلاع حروب دامية مثل حربي أوكرانيا وغزة، أتاح الفرصة لهذه الأنظمة للعب بين القوى العالمية والإفلات من المساءلة. ولذلك كان انعقاد هذا الملتقى الدولي في هذا الوقت الحساس من تاريخ المنطقة والعالم كان مهماً لمناقشة المشاكل والتحديات وكيفية التعامل معها، والتخطيط لتنظيم وتشبيك عمل الحركات المدنية والديمقراطية في المنطقة.

بدأت الورش واللقاءات بتذكر وتكريم عدد من شهداء الحرية والقلم والسجناء في مجال الحقوق والحريات، وبناء على طلبنا تم تضمين أسماء بعض من شهداء القلم وسجناء الرأي في إقليم كوردستان- العراق في القائمة، كسردشت عثمان وكاوه كرمياني و شيروان شيرواني.

خلال أيام الورش الثلاثة دارت نقاشات مستفيضة حول: كيفية تحقيق الإنجاز رغم الانتكاسات، العودة إلى السياسة في خضم الصراع المستمر مع الأنظمة القمعية، استراتيجيات الدفاع عن الحريات العامة في زمن المراقبة والمضايقة والسجن، إستراتيجيات الجهات الفاعلة الديموقراطية للتعامل مع المؤسسات الحكومية (كيفية الحصول على مقعد للمجتمع المدني على طاولة صنع القرار ووضع الأجندة؟) “شاركت أنا مع شخصيتين يمنية وأفغانية أخرى في تيسير هذه الورشة”، الفوز في حرب السرديات، تعزيز التعاون بين وسائل الإعلام المستقلة ومنظمات المجتمع المدني، ودور المرأة والشباب في كل هذه القضايا وكيفية إستفادة الجيل الجديد من التقنيات الجديدة في المجال المدني، والعلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وأهمية الإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد، والعديد من المواضيع الأخرى.

وقد عقد الملتقى في سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك. بالإضافة إلى موقعها المهم في قلب دول البلطيق، تعد البوسنة دولة متعددة الأعراق والأديان، خاصة المسلمين والكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس. وفي الفترة بماين عامي 1992 و1995، عانت البوسنة من حرب أهلية دامية أدت إلى إبادة جماعية لمسلمي البوسنة. لكن اتفاق دايتون سنة 1995 أنهى الحرب الأهلية وأنشأ نظاماً فيدرالياً تحكم بموجبه المكونات الثلاث البلاد بالتوافق.

ولكن من المؤسف أن النظام الفيدرالي والحكم التوافقي تحولا إلى المحاصصة هناك أيضاً، ونتيجة لذلك فإن الفساد يهدر بعضاً من ثروات البوسنة. ومع ذلك فقد تم إعادة بناء البوسنة، ورغم أن آثار الرصاص لا تزال مرئية في بعض المباني، إلا أن مدينة سراييفو القديمة، أعيد بناؤها بأجمل طريقة. يحاول البوسنيون الآن التغلب على آلام الماضي وتعميق التعايش المشترك فيما بينهم، ونتيجة لذلك يكتسبون الدعم الدولي، وهم الآن على الطريق نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فقد حاولوا توثيق جرائم الحرب الأهلية الدائرة في نهاية الألفية الماضية. وكان من بين أجندة الملتقى زيارة بعض المنظمات المحلية والمتاحف في سراييفو بناء على طلب المشاركين. نحن زرنا متحف الطفولة للحرب[v]، ومع بساطة فكرة المتحف إلا إنه كان مؤثراً جداً. فعلى سبيل المثال، تبرع أحد الأطفال بأدوات تزلج والده إلى المتحف وكتب بجانبها: “قبل أن يتم اختطاف والدي وقتله، كان يأخذني دائمًا للتزلج لأن كلانا نحب التزلج على الثلج كثيراً”.

وأخيرا، يجب أن أشير إلى أن منظمة زاستو ني (لماذا لا!؟)، وهي منظمة بوسنية محلية، بمساعدة الحركة العالمية من أجل الديمقراطية والصندوق الوطني الأمريكي للديمقراطية (NED)، أظهرت مستوى عال للغاية من التنظيم، لم نشاهده في أي مكان. وسنستفيد من ذلك بالتأكيد في أي عمل نقوم به في المستقبل.


[i] . ينظر إلى نص الخطاب على الرابط التالي:

https://www.washingtonpost.com/politics/2020/11/07/kamala-harris-victory-speech-transcript

[ii] . https://zastone.ba

[iii] . https://www.movedemocracy.org

[iv] . https://www.ned.org

[v] . https://warchildhood.org