د. فراس إلياس
في كتابه “سجناء الجغرافيا”، يذكر الكاتب البريطاني “تيم مارشال”، ما دوّنه قيصر روسيا الخامس “بطرس الأكبر” في وصيته، من أن عليهم “الإقتراب كلما استطاعوا من القسطنطينية والهند، وأن عليهم إثارة الحروب بإستمرار في تركيا وبلاد فارس، وأن عليهم التغلغل حتى الخليج العربي، وأن من يحكم، هناك سيكون صاحب السيادة الحقيقية على العالم”. ويبدو أن العراق هو البلد الذي ينسجم مع الشروط الجغرافية في وصية “بطرس الأكبر”.
مما لا شك فيه إن البحث عن دور في سياق العلاقات الدولية، يمثل أعلى مراحل التفكير الإستراتيجي الخلاّق لرجل الدولة، فهو القادر على ترجمة القرارات على شكل مشاريع وطموحات، مستنداً في ذلك لمقدرات الدولة الوطنية، إذ لا يخفى على أحد بأن كبرى المشاريع الدولية ولدت من رحم حاجات الدول، وهذا ما جعلنا اليوم أمام بيئة دولية تموج بالمشاريع العابرة للحدود، في سياق التكامل الدولي، إذ إن ما شهده العالم مروراً من نهاية الحرب الباردة إلى الحرب في أوكرانيا، جعل الدول تنظر لموضوع التكامل الإقتصادي على إنه شكل من أشكال التعاون، ليس في المجال الإقتصادي فحسب، بل في مجال التكامل السياسي، خصوصاً في ظل هيمنة الولايات المتحدة على المشهد الدولي.
يمكن القول بأن العراق يملك اليوم فرصة جيدة إعادة إنتاج جغرافيا جديدة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً وإن مشروع طريق التنمية، فيما لو توفرت فيه فرص النجاح، سيؤسس لوضع إقليمي جديد، ستجد كل دول الإقليم نفسها مجبرة على الإنخراط فيه، ففي الوقت الذي يقتصر فيه هذا المشروع بشكله الحالي على مد طرق برية من اسطنبول حتى الخليج العربي، وبالشكل الذي يجعل العراق ممراً برياً يربط مياه الخليج بمياه البحر الأبيض المتوسط، فإنه يمكن وعبر توسيع مشروع طريق التنمية، أن يجعل العراق ممراً برياً نحو البحر الأحمر عبر الأراضي السعودية، وبذلك سيشكل العراق مركزاً إستراتيجياً في الشرق الأوسط.
وبالنظر للموقع الجغرافي للعراق فإنه يمثل نقطة إنطلاق برية نحو البحور الثلاث، حيث إن إيران بموقعها المتميز على مياه الخليج، وتركيا بموقها المهم على مياه البحر الأبيض المتوسط، والسعودية بموقعها المؤثر على مياه البحر الأحمر، بحاجة للجغرافيا العراقية في توظيف البحور الثلاث لتوسيع عجلتها الإقتصادية، وزيادة فرص التنمية الشاملة فيها، ونجاح العراق في ترسيخ هذا التصور في ذهن قادة البلدان الثلاث، قد يجعل العراق مركزاً للتكامل الإقليمي، وعنصر إستقرار وتوازن في المنطقة.
إذ إنه وبهذا التصور الإستراتيجي يمكن أن تتحول البيئة العراقية من بيئة للتنافس الإقليمي إلى بيئة للتعاون، خصوصاً وإن جميع دول الجوار العراقي، وتحديداً المؤثرة منها، السعودية وتركيا وإيران، ستجد نفسها مسؤولة عن حماية الإستقرار السياسي في البلاد، والأهم من ذلك ستجد نفسها مجبرة على إنتاج مسار جديد للعلاقات، عبر التحول من الصراع على المصالح إلى التوازن في هذه المصالح، لأنه ليس من مصلحة الجميع الإستمرار باللعبة الصفرية في العراق.
إن المسؤولية الأكبر في هذا السياق تقع على عاتق حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إذ إنه وعبر تفعيل “دبلوماسية البحور الثلاث” يمكن أن ينجح في إحداث إنتقالة إستراتيجية في موقع العراق الإقليمي، وعبر هذه الإنتقالة يمكن أن يؤسس لدور إقليمي جديد للعراق، محوره الأساس التكامل الإقتصادي الإقليمي.
إذ ينسجم مشروع طريق التنمية مع هذا الإتجاه التكاملي، ويهدف لتحقيق أكثر من مجرد الربط التجاري العابر للحدود، فهو سيكون أيضاً بمثابة شريان يسمح بتدفق دماء جديدة للإقتصاد العراقي، بالإضافة إلى الطرق والسكك الحديدية التي ستربط ميناء الفاو جنوب العراق بالحدود العراقية التركية، ومن ثم السواحل الإيرانية، وفيما مقابل ذلك، سيربط الحدود العراقية بالبحر الأحمر على الأراضي السعودية، وهو ما قد يجعل من مشروع طريق التنمية فرصة واعدة، وما قد يؤدي إلى إنشاء مصانع وورش على طول ممره، مما يسمح بممارسة الأنشطة التجارية وخلق عدد كبير من فرص العمل، ووفقاً للمشروع، فإنه سيكون معظمه خارج مراكز المدن وفي المناطق الصحراوية، ما سيلعب دوراً في بنقل ثقل النشاط الإقتصادي بعيداً عن المراكز الحضرية المزدحمة ذات البنية التحتية القديمة، وسيساعد في تحفيز الهجرة من المدن إلى الأطراف، وبالشكل الذي يعيد تشكل المحافظات العراقية التي تقع على طرق عبر مشروع طريق التنمية، وفق سياقات حضرية حديثة تتوائم مع تغيرات القرن الحادي والعشرين.
وفي ذات السياق: تشكل “دبلوماسية التنمية” جهداً خارجياً معززاً لـ”دبلوماسية البحور الثلاث”، في إطار تقليل المخاطر، وهي مخاطر أكدتها ردود الفعل الإقليمية المتباينة من الحرب الإسرائيلية على غزة، وما نتج عنها من تداعيات إقليمية، أظهرت حاجةً لضبط مخاطرها على دول الإقليمم، وهو ما يبرز الحاجة لوجود مشاريع إقليمية تكاملية، تمثل الأساس الذي يمكن من خلاله الحديث عن التكامل السياسي، بين دول مختلفة لغوياً ومذهبياً وسياسياً، من خلال ما يمكن ان تقوم به الخارجية العراقية في فتح قنوات التواصل مع الجهات الفاعلة الإقليمية للعمل معاً لتحقيق الفوائد المحتملة لربط البحور الثلاث، وضمان نجاحه، خصوصاً وإن الفوائد المحتملة لهذا المشروع كبيرة؛ لما تمتلكه من قدرة على تحويل المشهد الإقتصادي للمنطقة، وتوفير فرص جديدة للتجارة والإستثمار، ومن شأنه تحقيق تنمية إقليمية مستدامة.